أزمة سد النهضة- تحالف مصري إقليمي لمواجهة الهيمنة الإثيوبية؟

في أعقاب إعلان مصر في التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول المنصرم عن "فشل المسارات التفاوضية مع إثيوبيا حيال ملف سد النهضة، نتيجةً لِتَلكُّؤ الأخيرة، وتأكيدًا على حقها الأصيل الذي تكفله المواثيق الدولية في صون أمنها المائي والقومي من أي تهديد مُحدِق".
برز تساؤل جوهري حول البدائل المتاحة أمام مصر للتعامل مع هذه المعضلة، لا سيما بعد أن أضحى الخيار التفاوضي غير مُجدٍ بعد اثني عشر عامًا من المحادثات المضنية، علاوةً على رفض إثيوبيا اللجوء إلى التحكيم أو القضاء الدولي كحل قانوني، بالإضافة إلى الصعوبة البالغة للخيار العسكري، خاصةً مع اقتراب اكتمال ملء خزان السد، ممّا يجعل أي ضربة عسكرية مُحتملة كارثية، حيث ستُغرق مدنًا سودانية عديدة، وستكون لها تبعات وخيمة على كل من السودان ومصر على حدٍ سواء.
الاتفاق الأخير مع أرض الصومال، يمكن فهمه في إطار السعي الإثيوبي لمزاحمة محاولة الهيمنة المصرية في البحر الأحمر، بعد مزاحمتها في الهيمنة المائية في حوض النيل من خلال سد النهضة
إلا أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ربما قدّم لمصر، من حيث لا يدري، فُرصة ثمينة لتضييق الخناق عليه والضغط عليه في محيطه الإقليمي، وذلك عبر استمالة دول الجوار، أو ما يُعرف بدول القرن الأفريقي، سواء بالمعنى الضيق الذي يشمل إثيوبيا والصومال وإريتريا وجيبوتي، أو بالمعنى الأوسع الذي يضم السودان وجنوب السودان وكينيا.
هذه الفرصة تجلّت بعد إقدام آبي أحمد في مطلع هذا العام على توقيع مذكرة تفاهم مع جمهورية أرض الصومال، الغير معترف بها دوليًا حتى الآن، والتي تنص على حصول إثيوبيا على مساحة قدرها 20 كيلومترًا في محيط ميناء بربرة لمدة خمسين عامًا، وذلك مقابل اعتراف أديس أبابا بأرض الصومال ومنحها حصة في شركة الخطوط الجوية الإثيوبية.
هذا الاتفاق قوبل باستياء شديد من قِبل دول الجوار، وحتى من القاهرة والدول الأوروبية والولايات المتحدة، كما أنه يحمل في طياته تداعيات جمة، ربما ظهر بعضها للعلن في الوقت الراهن، بينما قد يتكشف البعض الآخر في المستقبل القريب.
حيثيات القاهرة
إن رفض مصر لهذا الاتفاق ينبع من عدة اعتبارات، بعضها مرتبط بفشل مفاوضات سد النهضة، وإلقاء اللوم على إثيوبيا لانتهاجها سياسة المماطلة والتسويف في العملية التفاوضية، واتباع سياسة "الأمر الواقع".
لذا، فمن المنطقي أن ترفض القاهرة أي اتفاق تُبرمه إثيوبيا بعد هذا الفشل الذريع للمفاوضات، خاصةً وأن هذا الاتفاق الأخير قد يمنح أديس أبابا موطئ قدم على البحر الأحمر، الذي تعتبره مصر جزءًا لا يتجزأ من أمنها القومي، فضلًا عن كونه بحيرة عربية، استطاعت مصر استغلالها في حرب عام 1973 ضد إسرائيل، عندما تم إغلاقها أمام السفن المحملة بالنفط الإيراني والمتجهة صوب إيلات.
وبالتالي، فإن هذا الاتفاق مع أرض الصومال يُعد محاولة إثيوبية لمزاحمة النفوذ المصري في البحر الأحمر، بعد مزاحمتها لها في حوض النيل من خلال سد النهضة، إضافة إلى مشاريع السدود الأخرى المقامة على النيل الأزرق، الذي يُعتبر الرافد الأهم لنهر النيل، حيث يُمثل بمفرده حوالي 60% من إجمالي المياه المتدفقة إلى مصر، من إجمالي 85% من المياه القادمة من الهضبة الإثيوبية.
في هذا السياق، يمكن فهم رد الفعل المصري "الحاد" تجاه هذا الاتفاق، لا سيما خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الصومالي، حيث أكد الرئيس السيسي أن: "مصر لن تسمح بأي تهديد يطال الصومال أو أمنه، وأن الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال مرفوض بالإجماع... الصومال، بوصفه عضوًا في جامعة الدول العربية، له الحق في الحصول على الدعم الدفاعي في إطار ميثاق المنظمة، ولن نسمح بتهديد أمن أشقائنا... محدش يجرب مصر".
كيفية التحرك المصري
يمكن القول بأن مصر أمام منعطف تاريخي، يتيح لها تكوين تحالف إقليمي بقيادتها، يضم دول الجوار الإثيوبي، مستغلةً حالة الاستياء العارمة التي تسود هذه الدول تجاه الاتفاق الأخير، وتجاه تصرفات آبي أحمد بشكل عام، خاصةً بعد هيمنته شبه الكاملة على السلطة عقب انتخابات عام 2021، والتحول من سياسة "صفر مشاكل" التي تبناها في عامه الأول من الحكم "2018"، إلى سياسة افتعال المشاكل مع دول الجوار من خلال سعيه لفرض الهيمنة الإثيوبية في المنطقة.
لذا، قد يكون المدخل الأول لمصر في هذا الصدد هو إضعاف التحالف الذي شكله آبي أحمد في عام 2018 مع كل من الصومال وإريتريا، تحت شعار تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي وتعزيز التنمية الاقتصادية:
فالصومال الآن يسعى جاهدًا لإثبات سيادته على كامل أراضيه، ورفض أي اعتراف بأرض الصومال، ولذا لم يقتصر الأمر على رفضه للاتفاق والتصعيد ضد إثيوبيا، بل لجأ إلى خصوم أديس أبابا، فكانت أسمرا المحطة الأولى للرئيس حسن شيخ محمود "12 يناير/كانون الثاني"، ثم القاهرة "21 يناير/كانون الثاني".
وينطبق الأمر ذاته على إريتريا، التي ترى أن هذا الاتفاق سيؤثر سلبًا على موانئها التي تستخدمها إثيوبيا في عمليات التصدير "مصوع وعصب".
والأهم من ذلك، تخشى إريتريا من إمكانية سعي آبي أحمد للاستيلاء على ميناء عصب مجددًا، في ظل طموحاته التوسعية، وبعد البيان الصادر من الحكومة الإريترية والذي يرى أن أديس أبابا فقدت منفذها إلى البحر "المنفذ الإريتري" نتيجة "خطأ تاريخي وقانوني" في إشارة إلى الموافقة عام 1991 على استفتاء استقلال أسمرا عن أديس أبابا، لذا وحسب البيان فإن "الحكومة الإثيوبية تعمل منذ سنوات لتصحيح هذا الخطأ".
ومما يزيد من تعقيد العلاقات بين الجانبين، رفض أسمرا لاتفاق بريتوريا الذي وقعته إثيوبيا مع جبهة تيغراي في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، لوقف الحرب، وما تردد عن دعم أسمرا لجبهة فانو الأمهرية في حربها الأخيرة ضد النظام، بالإضافة إلى عودة التقارب "مجددًا" بين إريتريا والنظام المصري.
لذا، يمكن لمصر استغلال هذه التطورات في محاولة تشكيل هذا التحالف مع كل من الصومال وإريتريا، وربما كانت زيارة الرئيس الصومالي الأخيرة للقاهرة – والدعم المصري للصومال، وكذلك زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لأسمرا بعد انتهاء زيارة الرئيس الصومالي لها مباشرة، وتصريحاته بأن إثيوبيا "باتت مصدرًا لبث الاضطراب في محيطها الإقليمي"- مؤشرًا على إمكانية حدوث تقارب بين الدول الثلاث حول رفض هذه الهيمنة الإثيوبية.
هذا التحالف "المقترح" يمكن أن يتوسع ليشمل جيبوتي، التي تُعد من أبرز المتضررين من الاتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال لسببين؛ أولهما أنه جاء بعد يومين فقط من الاتفاق الذي توسطت فيه جيبوتي بين الصومال وأرض الصومال، والذي نص على استئناف المفاوضات السياسية بين الطرفين مع التركيز على القضايا المصيرية "الانفصال أم الوحدة".
وهو ما يعني تقويض جهود جيبوتي الدبلوماسية، ونسف فكرة المفاوضات برمتها، أما الاعتبار الثاني فهو أن هذا الاتفاق قد يضر بمصالح جيبوتي الاقتصادية، حيث يمر عبر أراضيها حوالي 95% من التجارة الخارجية الإثيوبية، وتحصل في مقابل ذلك على رسوم تتراوح بين مليار ونصف المليار واثنين مليار دولار.
ومن ثم، فإن جيبوتي تدرك أن آبي أحمد يسعى للبحث عن منافذ أخرى غير منفذها. ويبدو أن مصر تسعى منذ فترة لتعزيز العلاقات مع جيبوتي، حيث كان السيسي أول رئيس مصري يزورها في مايو/أيار 2021.
أما الدولة الخامسة التي يمكن أن تنضم إلى هذا التحالف فهي السودان، التي شهدت علاقتها توترًا مع أديس أبابا، خاصة في ظل دعم أديس أبابا لقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي في مواجهة الجيش السوداني بقيادة البرهان.
أما الدولة السادسة المقترحة فهي جنوب السودان المجاورة لإثيوبيا، حيث كان السيسي أول رئيس مصري يزورها أيضًا في عام 2020، مؤكدًا على عمق العلاقات بين البلدين. وتسعى مصر لإقناع جنوب السودان بعدم الانضمام إلى الاتفاقية الإطارية الخاصة بحوض النيل "عنتيبي"؛ لاسيما بعد تصريحات وزير الري والموارد المائية بجنوب السودان، في 22 مارس/آذار 2013، بأن "بلاده لا تعترف باتفاقية عام 1959، وأنها التحقت بمبادرة حوض النيل، وفي طريقها لـ"عنتيبي".
وهو نفس المسعى الذي تتبناه مصر لإقناع أوغندا وكينيا وبوروندي بعدم التصديق على اتفاقية "عنتيبي"، من خلال تقديم مجموعة من المحفزات الاقتصادية المُغرية.
لكن يظل هذا التحالف المصري المقترح مرهونًا بوجود خطة مصرية مُحكمة ومدروسة بعناية فائقة، تهدف إلى تذليل الخلافات القائمة بين دول التحالف وبعضها البعض، وقوة الحوافز المقدمة لها، ومدى تقبّل هذه الدول التي تحتفظ أيضًا باتفاقيات اقتصادية وتجارية وأمنية مع أديس أبابا، وأخيرًا برد الفعل الإثيوبي المحتمل تجاه هذه التحركات المصرية.
